لم أعد زوجة لشهيد

بقلم – رائدة وشاح:-

لفت نظري وجهها الشاحبة المائل للاصفرار والعيون المجهدة ونظرات الخوف التي تملئ وجهها، فكانت صامتة ملتصقة بجارتها طوال اللقاء كطفل صغير يخشى الغرباء ، لم أسمع من صوتها سوى عندما تعرفت على اسمها وكلما تلفت نحوها وجدتها هائمة كأنها في عالم أخر.

وما أن انتهى اللقاء وخرجت السيدات استوقفتها وسألتها عن رأيها في اللقاء فأجابت “إنه على الجرح، ولكني أريد الحديث معك وحدنا”. فحددت موعد معها و التقيت بها فسردت لي حكايتها، فقالت “كنت الفتاة الوحيدة بين 5 شباب والمدللة بينهم والمتفوقة عليهم في الدراسة، كما كنت محط أمل كبير من والدي”.

وتابعت سرد قصتها لتقول ” إلى أن رآني شابٌ في أحد الأفراح ، وبدأ ينتظرني عند باب مدرستي كل يوم حتى وجدته في أحد الأيام يناديني باسمي ويعبر عن حبه ولم أنظر خلفي ولكني عرفته وأخر النهار وجدت والدته وبعض أقربائنا في زيارتنا وعلمت أنهم جاءوا لخطبتي ولكن والدي رفض فهو ينتمي لحزب غيرنا وبكيت يومها وتعلقت به وهو كذلك كنت أجده أمام مدرستي كثيرا وتدخل أقرباء لنا لإقناع والدي و مع إصراري و إلحاح أمي وافق وتم الفرح وكنت أسعد عروسة فكانت الفتيات في الحي تنتظر خروجنا من البيت لإلقاء نظرة فقد كنا مثل العشاق وحكايتنا عرفت في الحي واكتملت فرحتنا بولادة طفلتنا الجميلة التي كنا نحلم بها قبل ولادتها ونختار الاسم بل والمدرسة التي سوف تدرس بها ولون غرفتها”.

هذه الأحلام الجميلة و البريئة لم تدم فانتهت بقتل حبيبي وزوجي أثناء حالة الانقسام فقد قسموا وفصلوا روحي عني يوم عيد ميلاد ابنتنا التي أراد أن يحتفل به وقد جهز كل الترتيبات بل وعزم الأصحاب و لكن القدر فرقنا وأصبحت وحيدة مع ابنتي وأحلامنا التي كنا نخططها سوياً”.

وسردت تفاصيل صعبة قائلة ” لقد كنت حامل وأنا لا أدري ولكن الله رحيم بعباده أراد أن يترك لي اسم حبيبي وصورته حتى ولدت ابني ثم عدت عند أهلي أحمل ابنتي وابني وهمومي ولم أعد الطفلة المدللة أصبحت الأم الأرملة زوجة الشهيد كل هذا وأنا لم أتجاوز التاسعة عشر “.
بدأت الضغوط بزواجي من أحد أفراد الأسرة والكارثة أن والدي موافق ؛ فالسابق كان من أشد الرافضين واليوم تغيرت الأحوال وأصبح من أشد الموافقين والمعجبين فلم يؤخذ رأيي بالحسبان ظناً منهم أنه من الصعب أن يعيش أبنائي بدون أب…فكيف أقبل أن أتزوج شخصاً كان بمثابة أخي طيلة الفترة الماضية؟

ولكن من يقف أمامهم ، للمرة الثانية تزوجت وهذه المرة لم يكن اختياري فهم اختاروا وأنا نفذت ووجدت نفسي للمرة الثانية في بيتي وعلى فراشي و بغرفتي ولكنني لم أجد حبيبي بل وجدت غريباً بجانبي وهكذا شعرت وعشت معه ولم أشعر بأي من الأحاسيس التي شعرتها مع زوجي ووالد أبنائي .

كثرت الخلافات بينهم و أصبحت تبقى في بيت أهلها أكثر من بقائها عند زوجها و الكل يلومها و يضغط عليها فالحي أبقى من الميت و بدأت تتعرض للتعذيب على يد زوجها الجديد فهي لم تهن ولم تضرب من قبل لا في بيت أهلها ولا عند زوجها التي مازالت تحتفظ بملابسه في خزانتها التي بها رائحته بعد عامين من وفاته.

وكانت دائما تعود إليه – زوجها الجديد – بعد إلحاح الأهل و لكنها لم تكن مخطئة بأنه اختيار سيئ فقد وجهت له تهم بالعمالة و حبس بعد مرور أشهر على زواجهما فبعد أن كانت زوجة شهيد ولها كرامتها أصبحت زوجة عميل تخشى النظر إلى وجوه من حولها كنظرة لوم و حكاية وكأنها مذنبة فهي لم تختاره ولم ترضى حتى بالزواج و لكنهم أجبروها تلبية لعادتهم الرثة وكأن لا خيار لها الآن فقد عدنا للجاهلية حيث تورث المرأة بعد موت زوجها فلا يحق لها الرفض أو القبول.

بهذه النفسية وجدتها وبدأنا رحلة العلاج والجلسات التي استمرت لمدة شهرين متواصلين بمعدل جلستين في الأسبوع ما بين هاتف و مركز و زيارات متكررة حتى استطاعت أن تتغلب على ضعفها وحزنها وتستعيد ثقتها بنفسها ودعم والدها لها لتواجه من حولها بكل قوة وتخرج من الوحدة والعزلة التي حكمت على نفسها بها.

لتحطم القيود الداخلية والمحيطة بها لتنجح من جديد وتسجل في الجامعة كما كانت تتمنى وتعود إليها ضحكتها التي نستها وعادت تهتم بنفسها وطفليها وتحقق في الأحلام التي حلمتها مع زوجها وحبيبها الشهيد وكان أولها تسجيل ابنتها في المدرسة التي تمنوها لها.