إلى متى سيستمر غياب المجلس الدستوري في فلسطين ؟!

ي ضوء الجدل حول رئاسة أبي مازن للحكومة
إلى متى سيستمر غياب المجلس الدستوري في فلسطين ؟!
* بقلم : د.جميل جمعة سلامة(*)
منذ توقيع اتفاق أو إعلان الدوحة الأخير في السادس من شهر فبراير الحالي بالعاصمة القطرية بين الرئيس محمود عباس (أبو مازن) رئيس السلطة الفلسطينية و رئيس حركة فتح و السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس و المتكون من أربعة بنود الجديد فيها البند الثاني الذي ينص على  ” تشكيل حكومة التوافق الوطني الفلسطينية من كفاءات مهنية مستقلة برئاسة سيادة الرئيس محمود عباس تكون مهمتها تسهيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبدء بإعمار غزة خلال فترة زمنية”  والجدل المحتدم السياسي منه و القانوني يتصاعد حول دستورية هذه الخطوة و مدى انسجامها مع أحكام القانون الأساسي الفلسطيني الذي يعتبر بمثابة الدستور المؤقت للسلطة الفلسطينية من عدمه.
لا أريد الخوض في الجدل السياسي للموضوع فالسياسة تستوعب كل شيء فهي كالفضاء المفتوح فقد وصفها البعض بفن الممكن وغيره وصفها بفن الكذب و البعض الأخر نعتها بالمطاط الذي تجذبه في كل اتجاه، ولا أريد تناول الجدل داخل حماس نفسها حول آلية تفويض خالد مشعل بالقرار فهذا أمر تقرره مؤسسات الحركة كحزب سياسي والحال ذاته مع حركة فتح التي ترى في هذا الاتفاق خروج من عنق الزجاجة الطويل، و لكني أريد تناول الجانب القانوني لهذا الجدل وبالتحديد الدستوري منه.
فالدستور كما يعرفّه الفقهاء هو مجموعة القواعد والنصوص التي تنظم شكل الدولة ومؤسسات الحكم فيها سواء التشريعية أو التنفيذية أو القضائية والعلاقة فيما بينها، والحريات العامة وحقوق وواجبات المواطنين …ألخ من مكونات الدولة وأسسها ، فهو بإيجاز بطاقة هوية أي دولة أو كيان سياسي، والنصوص الدستورية تسمو على ما سواها من نصوص قانونية أو تشريعية أخرى و تعتبر مرجعية الحكم برمته، فهل ينسجم اتفاق الدوحة سيما البند الخاص بالتوافق على تولي الرئيس أبي مازن رئاسة الحكومة مع نصوص القانون الأساسي أم جاء قافزاً عنها و متجاوزاً لها ؟
تباينت ردود الفعل حول ذلك فالسيد إسماعيل الأشقر نائب رئيس كتلة حماس النيابية وصفها بالخطوة غير الدستورية والمخالفة لأحكام القانون الأساسي على أساس أن تعديل الدستور لعام 2003م كان في جوهره الفصل بين منصبي قطبي السلطة التنفيذية الرئيس ورئيس الوزراء وبالتالي الجمع بينهما مخالفة دستورية صريحة علاوة على أن تفاهم أبي مازن- مشعل بالدوحة لا يغني بحال من الأحوال عن وجوب نيل هذه الحكومة الثقة النيابية من المجلس التشريعي وفقا لأحكام الدستور دائماً، و قد ذهب زميله النائب خليل الحية رئيس الكتلة النيابية لحماس أبعد من ذلك باشتراط أن يسبق تنفيذ الاتفاق تعديل دستوري يجيز الجمع بين منصبي الرئيس ورئيس الوزراء مشاطراً زميله الأشقر بأن الاتفاق لا يجيز إعفاء رئيس الوزراء الجديد من نيل الثقة النيابية، وقد رد عليهما السيد عزام الأحمد رئيس كتلة فتح النيابية بانتقاد شديد واصفاً الأمر بالدستوري حيث لا يوجد في أحكام القانون الأساسي ما يمنع الجمع بين المنصبين عملاً بقاعدة كل شيء مباح ما لم يرد فيه دليل التحريم وأن السلطة التنفيذية وحدة واحدة علاوة على أن الرئيس هو من يختار رئيس الوزراء ويقيله وأن الحكومة المرتقبة باعتبارها توافقية لا تخضع للثقة النيابية، من جانبه وصف د.أحمد يوسف المسؤول في هيئة الوفاق الفلسطيني والقيادي الحمساوي المعتدل الخطوة بالتوافقية مشدداً على أن المصلحة الوطنية العليا فوق الجميع وأن الدستور في خدمة التوافق وليس العكس مبيناً أن المجلس التشريعي يتكون في غالبيته من كتلتي فتح وحماس وبالتالي منح الثقة النيابية تحصيل حاصل باعتبار أن التوافق في الدوحة بين رأسي هرم الفصيلين الرئيسين.
ثلاثة أراء بارزة تصدت للأمر من منطلق سياسي صرف وسأتفادى الخوض في تصويب أو تخطئة أي رأي منها مع تقديري لأراء الجميع و لا أشكك في نوايا أصحابها و حرصهم جميعا على إنجاح مسيرة المصالحة الوطنية رغم أهليتي العلمية و المهنية للحكم عليها وهو ما سأتحفظ عليه لسبب واحد وهو أن قضية من هذا القبيل معقود الاختصاص للفصل فيها في جميع الأنظمة السياسية المقارنة في كافة دول العالم حصراً للقضاء الدستوري وهو ما نص عليه قانوننا الأساسي الذي ارتضيناه كعقد اجتماعي بيننا و توافقنا على نصوصه، و لا يمكن التصدي بشكل ارتجالي أو اعتباطي أو تبرير هذا الرأي أو ذاك بحجة الاستناد إلى نصوص صنمية كما ذهب البعض أو التعامل مع روح النصوص كما ذهب البعض الأخر.
إن سؤال من هذا القبيل وقبله السؤال الذي أثار لغطاً كبيراً استمر أشهراً وسنوات حول ولاية الرئيس عباس ومدى دستوريتها حتى وصل الأمر إلى أروقة الجامعة العربية ومجالسها إذ يعكس فراغا مهولاً في النظام السياسي الفلسطيني وافتقاده لمؤسسة دستورية تتصدى لمثل هذه الأزمات والإشكاليات وتعالجها بقرارات مهنية حاسمة و فاصلة تضع النقاط على الحروف وتُعمل أحكام الدستور أسوة بكافة الأنظمة السياسية الأخرى وهذه الحلقة المفقودة هي مؤسسة القضاء الدستوري في بلادنا.
هذه المؤسسة التي نص عليها دستورنا الوطني في المادة 103 تحت عنوان المحكمة الدستورية العليا وصدر قانون منظم لها عن المجلس التشريعي رقم (3) لسنة 2006م لم تجد طريقها للأسف الشديد حيز الوجود وبقي الحال الساري هو الموروث عن عهد الإدارة المصرية لقطاع غزة وهو إلحاق اختصاص المحكمة بالمحكمة العليا التي تنعقد بصفات عديدة منها المحكمة الدستورية وهو ما كرسه المشروع الدستوري في القانون الأساسي وكرر خطأ ًأخراً وهو إلحاقها ضمن السلطة القضائية في مخالفة صريحة لمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية على حد سواء.
ومع الانقسام الجغرافي والإداري الأليم الذي لحق بالنظام السياسي الفلسطيني بعد أحداث حزيران 2007م الدامية وانشطار الجهاز القضائي الفلسطيني انشطر معه القضاء الدستوري وأضحت المحكمة العليا بصفتها الدستورية محكمتين أيضا وبالتالي أضحت المحكمة الدستورية مشكلة بدلاً من كونها الحل  صمامه و هذا- للأسف الشديد – أيضا ما تجاهله اتفاق القاهرة و ملاحقه و لا يزال مغيباً حتى تاريخه في ظل تخبط يعكس قصوراً لدى النخب السياسية في فهم النظام السياسي ومكوناته ومؤسساته السيادية و ثقافة دستورية وقانونية محدودة وعجزاً في إدراك الأهمية الكبيرة والبالغة لهذه المؤسسة في ضوء مخاض النظام السياسي الفلسطيني الجديد القائم في جوهره على الشراكة السياسية (political partnership ) و المشاركة في صناعة القرار ( (sharing of decision making والتداول على السلطة (rotation of power ) .
المطلوب اليوم توفير الضمانات والآليات لإنجاح اتفاق القاهرة و الدوحة وغيرهما من أي اتفاقيات أخرى سابقة أو لاحقة وتحصينها من أي عثرات أو معوقات تتخلل طريقها و تهدد – لا سمح الله – بتفجيرها و إعادتنا إلى المربع الأول، مطلوب التقاء الإرادات السياسية للفرقاء جميعاً لاستكمال وفاقنا الوطني المنشود باستحداث هذه المؤسسة الدستورية تحت مسمى ( المجلس الدستوري) لأن لفظة المجلس تضفي صفة سيادية مقارنة بلفظة المحكمة علاوة عن فصلها التام عن السلطة القضائية باعتبار هذا المجلس دستورياً يتربع فوق السلطات الثلاث و ليس جزءاً منها أو تابعاً لها و توفير الاستقلالية الكاملة له عن مراكز القوى المختلفة في السلطة لكبح جماح المصالح الشخصية و الفئوية التي تجد دورها في استمرار حالة الهلامية و اللا مؤسساتية حيث لا مساءلة و لا رقيب أو حسيب، وهذا المجلس سيكون القائم و الساهر على تطبيق أحكام الدستور والرقابة على ذلك والفصل في المنازعات الدستورية المختلفة كالخلاف الحالي – و المرشح للتأزم – لا سمح الله – أو أية أزمات لاحقة قد تظهر مستقبلا وبالتالي نستمر في قرع طبول أزماتنا الدستورية أزمة تلو الأخرى و نخلق مادة إعلامية وفيرة للفضائيات و شبكات الانترنت للغو فيها وصب المزيد من الزيت عليها.
إن استمرار هذا الغياب لهذا المجلس يعني مزيداً من البعد عن حل خلافاتنا بطريقة حضارية مؤسساتية وفقا للحكم الرشيد المنشود و بالتالي نبقى أسرى الاشتباك الإعلامي و الاحتكام لمنطق القوة و السلاح و الدوس على دستورنا الوطني وارتكاب مجزرة جديدة بحقه كما تخلل أحداث حزيران 2007م الدامية و ما تبعها قبل أن يفيق قومي على حتمية الشراكة الوطنية بعد سنوات عجاف لم يخرج أحد منها منتصراً وكان فيها الشعب والوطن والقضية الخاسر الأكبر.
كما أن بقاء الحال القائم اليوم يعني الإصرار على المضي في الطريق الخطأ بحسن نية أو سوئها وهو حتماً طريق مغاير لمصلحتنا الوطنية ولا يخدم سوى أعداء الوطن و الدستور والقانون وتجار السياسة.
اللهم أني قد بلغت ، اللهم فأشهد ،،