فرحة ألم

بقلم الأخصائية ورود ياسين – مركز حل النزاعات نابلس:

كانت في كل مرة تجلس على نفس المقعد في ساحة المحكمة و يكتنفها الغموض والحزن  ويرتسم على وجهها خيوطاً من معاناة الزمن والابتسامة الصفراء توزعها لكل محامي يقف إلى جانب موكلته وترى الفرحة بعيونها عند سماع حكم القاضي للأم بأطفالها.

ألم وفرح يختلطان وقهقهات تعلوا المكان كانت هي المواطنة “س” أم لأربعة أولاد أكبرهم يبلغ من العمر عشرين عاماً أي أن القانون يسمح لطليقها بأخذ ابنها هــــ منها أو لأنني أنثى فسيحكم عليها بالموت فبدأت بالبكاء الذي يشبه المطر بشهر كانون الثاني.

بدأت معاناتها منذ حوالي 21 سنه إي بعد زواجها بأربع أيام وكان زوجها هو “من لحمها ودمها ” مثل ما يقولون ابن عمها وهي البنت الوحيدة في عائلتها المدللة، فجأة توقفت عن الكلام وكأنها في عالم أخر فتذكرت وتذكرت في تلك الليلة وماذا حدث؟ وحل الصمت مرة أخرى وكأنه يرسم الموقف الذي ستخبرنا عنه، وإذا بها تضع يديها على الكرسي وتثبت قدميها وتصرخ هكذا كان يضعني ويربطني بالكرسي من الساعة 8 مساءا وحتى الساعة 7 صباحا ويحرق جسدي بقمع السجائر التي كان يتلذذها بشهوة لا توصف ويطفئها بجسدي واستمر هذا الحال طوال تلك الليلة التي حفرت لحظتها في ذاكرتي إلى الأبد.

لم أكن امتلك سوى التضرع لله تعالي بدعاء كبير بأن يأتي أحد من أهلي أو أهله ولكن لا جدوى من الدعاء والتوسل في تلك الليلة لمعرفة ما الخطأ الذي ارتكبته ليفعل كل هذا بي، وبدأ يرش جسمي بالماء بالبارد ويضحك ويقول هذا هو العسل تذوقيه، فأنا كنت تلك العروس التي لم تعرف طعم السعادة أبداً فتركني بعد عدة أشهر من الزواج وسافر للعمل خارج فلسطين وكنت وقتها حاملاً بطفلي الأول إلا أن الحمل لم يدم طويلاً وفقدت الجنين وقتها.

كان يعود لأرض الوطن كل سنة مرة واحدة ويتم الحمل خلالها وكان والدي يعطيني مصروفي ويقضى احتياجاتي واحتياجات أطفالي إلى أن يعود زوجي من السفر ويا ليته لم يعد وبقي الغائب الحاضر فهو ليس مثالاً للأب الحنون أمام أولاده، عاد وعادت مأساتي معه مرة أخرى وكان أصعبها عندما ضرب ابني المريض وطرده من البيت ليقضى ليلة شتوية بادرة والثلج يتساقط فقضى ابني ” غ ” الليلة بأكملها أمام باب البيت نائماً ونحن مربوطين بالخزانة كالحيوانات فازدادت الخلافات بيننا إلى أن حصلت على الطلاق في نيسان الذي اعتبره بداية النسيان إلا أن معاناتي لم تنتهي واستمرت بعد الطلاق فبدأ يطالب بأولادي ليضمهم له ولكن الأمل بقي موجود بحياتي، وأنتم في مركز حل النزاعات من أعطيتموني الفرحة والأمل بالكلام والاستماع لما أريد أن أقول ورسمتم من خيوط الحزن التي تلونت على وجهي بخيوط الأمل والحياة مجدداً وبعد ما تقدمت بقضيتي للمركز ومساعدتي على إبقاء أبنائي معي وحمايتهم من جشع ذاك الذئب الذي يأكل أولاده إذا ما ثار أو جاع.

وأثناء اللقاء، خيم السكون أرجاء الغرفة لمدة تزيد عن خمسة دقائق ما بين البكاء بصمت والابتسامة بأمل وحياة جديدة فالتحقت المواطنة ” س ” في برنامج قدمه المركز لتعليم الخياطة بهدف توفير الحماية والأمن الاقتصادي والدخل لها ولأولادها وتمكنت بإصرارها وشغفها للعمل بأن تكون من المتفوقات في عمل الخياطة وتصميم الملابس وبيعها خلال فترة قصيرة بعد التدريب، ولم يكن كل ما مر بها إلا شريط من الدروس التي تعلمنا إياها الحياة ومحن من الله وابتلاء يتطلب الصبر واحتساب الأجر عنده وعليها بشكر الله عزوجل على كل ما مر بها ولن يتوقف أملها بالحياة وعكفت على تعليم أبنائها في الجامعات ليكونوا سنداً وعوناً لها في كبرها وعجزها في المستقبل.

فقالت لنا في نهاية الحديث ” سأعلمهم كيف يجعلون من الليمون الحامض عصير لذيذ يشفى من الأمراض ويقيهم من مرارة وحلاوة الأيام”.